سؤال تم طرحه مرارا وتكرارا على مدار العديد من السنوات، لماذا لا تمتلك بعض الدول ذات الكثافة السكانية الأعلى على الإطلاق منتخبا قويا لكرة القدم، أو حتى لماذا لا تعد لمسابقات الدوري المحلي الخاصة بها وزنا معتبرا بالمقارنة بالدوريات الأكثر تنافسية وقوة في مختلف أنحاء العالم ؟
تتمثل الإجابة في أسباب متعددة تشمل بالتأكيد بعض العوامل المشتركة إذا نوقشت القضية محل السؤال بالتعرض لدول مختلفة، وهو ما لا ينفي أن كل دولة تمثل حالة متفردة تمتلك مبرراتها المنطقية المرتبطة بأوضاعها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
هنا الحديث عن شبه القارة الهندية البالغ تعداد سكانها 1.4 بليون نسمة، والتي – بين الحين والآخر– تتبادل مع الصين موقع صدارة دول العالم من حيث عدد السكان؛ وبالنظر أن الأخيرة قد اتخذت موقعا مقبولا على مستوى كرة القدم الأسيوية على الأقل، فلماذا لم تستطع الهند حتى الإقتراب من بلوغ مستوى يؤهلها للمنافسة القارية ؟
قد يظن البعض أن الهند قد تكون من الدول حديثة العهد فيما يتعلق بممارسة كرة القدم على المستوى الرسمي، ولكن الحقيقة تمثل النقيض تماما؛ فقد ساهمت بريطانيا الإستعمارية – والتي كانت لها الهند بمثابة درة التاج – في نشر اللعبة على مستوى مستعمرتها الأكبر على الإطلاق من حيث المساحة أو التكتكل البشري؛ إذ يعتبر كأس ديوراند – الذي بدأت منافساته عام 1888 – هو رابع أقدم المسابقات في تاريخ كرة القدم بعد كأس الإتحاد الإنجليزي وكأسي اسكتلندا وويلز.
كما لا يخفى عن البعض حقيقة أن المنتخب الوطني الهندي قد كانت له صولات وجولات مقارنة بأبناء القارة الأسيوية أثناء خمسينيات القرن الماضي؛ إذ استطاع التأهل لكأس العالم 1950 التي أقيمت بالبرازيل قبل أن ينسحب من البطولة نظرا لصعوبات لوجيستية، كما استطاع المنتخب نفسه الحصول على المركز الرابع لمنافسات كرة القدم ضمن أوليمبياد ملبورن 1956
الصورة لمنتخب الهند المشارك في منافسات كرة القدم لأوليمبياد لندن 1948
أما عن انتشار اللعبة، فلا يختلف اثنان على أن الكريكيت هي الرياضة صاحبة الشعبية الأولى في الهند، ولكن عديد التقارير الصحفية والإستطلاعات تؤكد أن شعبية كرة القدم تأتي في المركز الثاني بالنسبة لمواطني هذه الدولة الكبرى، ولعل الحضور الجماهيري المقدر ب134,000 متفرج في استاد سولت ليك لمتابعة مباراة نصف نهائي الكأس بين إيست بينيجال ضد موهون باجان هو دليل كاف على شغف الهنود بكرة القدم؛ إذ يمثل هذا العدد رابع أكبر حضور جماهيري في تاريخ كرة القدم على الإطلاق، والثاني بين مباريات الأندية المحلية من نفس الدولة، بعد مباراة بين بورتو وبنفيكا عام 1987 والتي فاقت هذا العدد من الحضور بحوالي ألف مشاهد.
وعلى نحو آخر، سجلت العديد من إحصائيات المشاهدة لمختلف شبكات البث التليفزيوني والرقمي في الهند أعدادا ضخمة تدل على حرص المواطنين على المتابعة الدائمة لمباريات الدوري الإنجليزي الممتاز ودوري أبطال أوروبا ودوري السوبر الهندي أيضا، ناهيك عن الحضور الجماهيري البارز للجولات الصيفية التحضيرية لبعض أكبر الأندية الأوروبية.
إذاً فالعنصر البشري متوفر وشغف اللعبة حاضر والممارسة تضرب في الجذور التاريخية للعبة ككل، فما المشكلة إذن ؟
يمثل النطاق الجغرافي الكبير للهند أحد أهم العوائق المعطلة لتطور اللعبة، إذ أن كرة القدم بشكل عام لا تتمتع بمستوى متقارب من حيث القاعدة الممارسة للعبة أو حتى الشعبية و الإنتشار بين مختلف المقاطعات الهندية، بالاضافة إلى أن صعوبة التنقل اليومي السلس بين الأحياء والمناطق البعيدة نسبيا عن بعضها البعض بسبب الإختناقات المرورية يصعب فكرة انضمام البعض من الشريحة الناشئة إلى أندية وأكاديميات كرة القدم إلا إذا تواجد بعضها ضمن النطاق القريب لأمكان سكنهم، وهو ما لا يتوفر بالطبع كما تمت الإشارة أعلاه.
ومن ناحية أخرى فقلة التمويل والدعم المادي المقدم سواء لأغلب الأندية أو حتى للإتحاد الوطني – حتى وقت قريب – قد ساهم بشكل كبير في ضعف جودة المنتج النهائي للعبة – ألا وهو مردود ومستوى اللاعبين – ويرجع البعض السبب الرئيسي لإحجام الرعاة والمستثمرين عن ضخ القدر الكافي من الأموال في صناعة كرة القدم إلى اتجاههم للإستثمار في رياضة الكريكيت، صاحبة الشعبية الأعلى والنتائج الأفضل على المستوى الدولي.
وقد أدى إحجام رؤوس الأموال عن الإستثمار في كرة القدم إلى سوء حالة البنية التحتية للعبة من مرافق تدريب واستادات وغيرها، كما أثر سلبا على مستوى الأجور التي يتقاضاها اللاعبين والمدربين وكافة المشتغلين بهذا القطاع، ناهيك عن غياب البرامج التأهيلية الكافية للمدربين بشكل عام، والعاملين بالفئات السنية بشكل خاص وهو الأمر الذي يقف عائقا أمام أي خطوات حثيثة للإرتقاء باللعبة اعتمادا على الأجيال القادمة.
ورغم ذلك كانت هناك بعض المحاولات من قبل اتحاد كرة القدم الهندي للتغلب على تلك المشكلات، بدأت بمشروع جديد للدوري الوطني في العام 2006، والذي حقق بعض المكاسب من خلال أرباح البث التليفزيوني واستقطاب رعاة لتمويل الأندية المشاركة، ولكن هذا المشروع في النهاية لم يحقق الأثر الإيجابي على المدى الطويل، بسبب أن الإستثمارات التي تم جذبها لم تكن بالقدر الكافي ليمتد أثرها لرفع مستوى أجور اللاعبين والمدربين على سبيل المثال.
وبعد مرور سبع سنوات على بداية مشروع الدوري الوطني، أتت المحاولة الأكثر شهرة للإرتقاء بكرة القدم الهندية، وهو مشروع دوري السوبر الذي انطلق موسمه الأول في العام 2013 بتمويل ضخم واستقطاب لبعض كبار المدربين إضافة إلى عدد من نجوم الكرة الأوروبية في المواسم الأخيرة لمسيرتهم، وهو ما عاد على الأندية المشاركة بالنفع على كافة الأصعدة.
وعلى الرغم من ذلك، فالمشكلة لم تزل مستمرة حتى وقت قريب، فنظام دوري السوبر يقوم على مشاركة ثمان أندية فقط – تم زيادتها مؤخرا إلى اثني عشر ناديا – بدون درجة أدنى أو نظام للصعود والهبوط؛ الأمر المؤثر بشكل سلبي على طموحات ودوافع الأندية التي فقدت حظوظ المنافسة على اللقب، وبالتالي مستوى لاعبيها.
بل أن انطلاق الدوري بمعزل عن مظلة الإتحاد الوطني، جعل التطور المنشود مقتصرا على الفرق المتنافسة خلاله، والتي تشهد غيابا واضحا لتمثيل بعض كبرى الولايات الهندية، كما أن عدد الأندية المشاركة وبالتالي عدد المباريات المقامة ضمن هذه المسابقة يعتبر قليل نسبيا مما يؤثر سلبا على استمرارية اللاعبين في أفضل حالاتهم البدنية والفنية.
واستمرارا لتناول أهم المشاكل التي تقوض التطور المحتمل لكرة القدم الهندية – وهنا الحديث على مستوى المنتخب الوطني – فإن السعي لإقناع عديد اللاعبين من ذوي الأصول الهندية – والمقيمين في بريطانيا بشكل خاص – غالبا ما تبوء بالفشل، إذ تمنع قوانين الدولة ازدواج الجنسية؛ وهو ما يؤدي لاضطرار هؤلاء اللاعبين إلى الإستغناء عن جنسية الدول البريطانية إذا توفرت لديهم الرغبة في تمثيل منتخب الهند، وهو ما يؤثر بلا شك على مسيرتهم كلاعبين أو حتى على حياتهم كمقيمين في هذه الدول بعد الإعتزال.
قد تبدو الصورة قاتمة أمام القارئ، ولكن وضع كرة القدم في الهند قد شهد في السنوات القليلة الماضية تحركا تدريجيا نحو الطريق الصحيح، ظهر أثره جليا في احتلال المنتخب الأول المركز الثالث خلف قطر وعمان ضمن مرحلة دوري المجموعات – المرحلة ما قبل النهائية – للتصفيات الأسيوية المؤهلة لكأس العالم قطر 2022، كما تأهل نادي إف سي جوا لدور المجموعات من دوري أبطال آسيا عام 2021، الأمر الذي حدث لأول مرة في تاريخ الأندية الهندية ضمن مشاركاتها القارية، فما التغيير الإيجابي الذي طرأ على المنظومة مؤخرا؟
تمثلث أول بشائر الإصلاح في اتفاق بين مسئولي دوري السوبر الهندي وبين الإتحاد الوطني لكرة القدم يقضي بانضمام المسابقة تحت مظلة الأخير، ويضمن مشاركة أكبر للاعبين الهنود ضمن التشكيلة الأساسية لأندية المنافسة الأقوى في الدولة، كما تم وضع تصور لإدراج نظام الصعود والهبوط بحلول موسم 2024-2025
كما مثلت مؤسسة ريلاينس الرياضية للشباب Reliance Foundation Youth Sports طوق النجاة لكرة القدم الهندية؛ فقد دشنت المؤسسة الإستثمارية مشروعا ضخما بالشراكة مع الإتحاد الوطني يقوم على ضخ الأموال الكافية لإنشاء عديد من أكاديميات كرة القدم في مختلف أنحاء الهند، بالأخص في الولايات التي تعاني من فقر البنية التحتية للعبة وانخفاض القاعدة الممارسة لها، كما تكفلت المؤسسة نفسها بتوفير برامج التطوير والتأهيل اللازم لمدربي اللعبة، إذ زاد عدد المدربين الحاصلين على الرخصة D من خلال هذه البرامج عن سبعمائة وخمسين مدربا.
كما قامت المؤسسة بإطلاق مسابقة رئيسية تنافست فيها الفرق الرديفة لثمان أندية عام 2022، بل وازداد عدد الفرق المشارك في نفس البطولة عام 2023 ليبلغ تسع وخمسين فريقا وبتغطية تسع مناطق مركزية في مختلف أنحاء البلاد.
وفضلا عن ذلك، امتد المشروع الواعد ليحتضن نشاط كرة القدم في أكثر من 2400 مدرسة وجامعة، مع الإهتمام باستقطاب كشافي العديد من الأندية لضم المواهب الواعدة التي تبرز من خلال البرامج الخاصة بالمؤسسات التعليمية.
الخلاصة أن معاناة كرة القدم الهندية التي استمرت لسنوات طويلة – وما زالت – كان سببها عديد العوامل التي اجتمعت خلالها الظروف الطبيعية يدا بيد مع مظاهر الإهمال الناتج عن شح العنصر المادي الفعال مما ضاعف الأثر السلبي على جميع عناصر اللعبة، وبعد أن بدأ تدارك الأخطاء المتراكمة مؤخرا، فالسؤال عن الوقت اللازم لظهور آثار ملموسة بحق هو السؤال الذي ينبغي أن يطرح.
إنتهى .
المصادر:
https://www.albayan.ae/sports/asia-cup/2019-01-13-1.3458679
https://www.dw.com/en/india-sets-its-sights-on-becoming-asian-football-power/a-59823431
https://theathletic.com/4361019/2023/04/04/india-football-world-cup-cricket/
https://reliancefoundation.org/rfys-press-release-31oct2022
اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على معلومات التحديث والأخبار والرؤى.