كلما وقع أمام عينيك – أخي القارئ – أي نوع من المحتوى المكتوب أو المسموع أو حتى المرئي، الذي يتناول بالتحليل الجوانب التكتيكية لكرة القدم، بداية من الحديث عن مباراة ما ومرورا باستعراض أسلوب مدرب ما وانتهاء بالشرح التفصيلي لإحدى فلسفات اللعب، فتجد – في الغالب – التركيز منصبا على استعراض أنماط مراحل البناء والتدرج وما يقابلها من تقنيات وأساليب الضغط.
ولا عجب في ذلك باعتبار تلك المراحل هي الركائز الأساسية لأي فريق يلعب كرة قدم حقيقية في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، ولكن ماذا عما سبقها ؟ نتحدث فعليا عن أول عشرة أعوام من الألفية الثالثة.
لا شك أن النبتة وقتها كانت مغروسة بالفعل وفي طور النمو، وهو ما يتجلى في ظهور الأدوار المركبة لبعض مراكز اللاعبين – والتي تتفاوت حسب جودة اللاعب ووعيه الخططي وفلسفة المدرب بشكل عام – بالإضافة إلى وضوح بعض أنماط التدرج وما يقابله من الضغط المتوسط للمنافس على الأقل.
ولكن هل باستطاعتك أن تستحضر في ذهنك عشر مباريات – أو أكثر – أقيمت بعد العام 2000 وتتكافأ حظوظ طرفيها ضمن أعلى مستوى تنافسي لكرة القدم، تكون فيها المرحلة الأهم والأغلب هي حيازة فريق للكرة في ثلث الملعب الأخير وما يقابله من دفاع منخفض من الخصم ؟ لا شك أن عدد المواجهات المثيلة التي ستتذكرها قليلة جدا.
هنا نبدأ بالفعل، إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا لموسم 2009/2010، انتر يفوز ذهابا في الجوزيبي مياتزا بثلاثة أهداف مقابل هدف، والمطلوب من برشلونة المتسلح بحضور جماهير الكامب نو هو الفوز بنتيجة 2-0 أو بفارق ثلاثة أهداف على الأقل لقلب الطاولة وبلوغ النهائي.
صراع آخر في المنطقة الفنية بين بيب جوارديولا، المدرب صاحب الأفكار الثورية التي بدأت في الظهور مع توليه لمقاليد الأمور الفنية لفريق برشلونة الأول قبل موسمين، وبين جوزيه مورينيو الذي كان يصنف وقتها – على أسوأ تقدير – ضمن القلائل من صفوة المدربين في أوروبا.
بدأ المدربان المباراة بالتشكيل الذي تلاحظه في الصورة أدناه، المباراة التي بدأت بحيازة تامة من برشلونة للكرة، وركون انتر إلى الدفاع المنخفض أو الضغط المتوسط، – على استحياء – وهو سيناريو متوقع اتباعه من مورينيو، كونه من أساتذة هذه المراحل من اللعب وقتها، وخصوصا بالنظر إلى نتيجة مباراة الذهاب.
لا نستطيع أن نتكهن – بما أن ذلك لم يحدث بالفعل – إن كان المدرب البرتغالي ينوي إظهار أي ملمح متأخر للأخذ بزمام الأمور في مراحل حيازة فريقه للكرة، أو إلى أي مدى كان من الممكن أن يتخلى عن تحفظه، ولكن كل ما نعرفه أن الأمور ازدادت صعوبة وازداد النيراتزوري تراجعا وتحفظا مع طرد لاعب المحور تياجو موتا قبل مرور ثلاثين دقيقة على بداية شوط المباراة الأول.
وهنا تكون فرصة جيدة للحديث عن المرحلة التي لا تأخذ حيزا كبيرا من التركيز ضمن التحليل التكتيكي للمباريات، كيف حاول جوارديولا في مرحلة الهجوم المنظم وحيازة الكرة في الثلث الأخير التغلب على الدفاع المنخفض لمورينيو؟ وكيف تفوق الأخير سواء قبل النقص العددي أو بعده، مع عدم إهمال الدور الهام للأداء الفردي للاعبي انتر للوصول لهدفهم المنشود.
الفكرة الأولى: تحرك ميسي من الخط للعمق
بشكل عام اعتمد جوارديولا على بداية حالات الهجوم المنظم بكثافة عددية قرب دائرة المنتصف ولو على حساب عدد لاعبيه المتمركزين في الثلث الأخير بهدف محاولة سحب أكبر عدد ممكن من لاعبي انتر للضغط، وبالتالي تفكيك الشكل الدفاعي المتماسك الذي يمتاز بتقارب الخطوط رأسيا، الأمر الذي كان يواجهه مورينيو غالبا بالحفاظ على تماسك كتلة الفريق وتواجد ميليتو للضغط على عناصر الخط الخلفي، بينما يقوم سنايدر غالبا بالضغط على بوسكيتس وأحيانا يتقدم موتا للحاق بتشافي عند نزوله قرب دائرة المنتصف
ملاحظة: الخطوط السوداء المتصلة تشير لحركة الكرة والخطوط السوداء والبيضاء المتقطعة على الترتيب تشير لحركة اللاعبين في بداية الحالة ثم التغيير الواقع عليها باستمرارها
هنا مسار التقدم بالكرة مفتوح لصالح يايا توريه بينما يظهر فراغ في عمق الملعب عند بداية الثلث الأخير نتيجة لسحب تشافي لموتا وتواجد كامبياسو في الجهة المقابلة بالقرب من سيدو كيتا.
بالتالي يقوم ميسي بالتحرك للعمق سواء ليكون زانيتي أمام خيارين:
إما تركه يستلم في وضعية واعدة لتهديد مرمى إنتر وإما يترك تمركزه لتعقبه مع ملاحظة مخاطرة تغطية صامويل للأخير وترك ابراهيموفيتش في وضعية 1/1 ضد لوسيو، ويختار زانيتي تعقب مواطنه الشاب بينما يحاول ابراهيموفيتش الهروب واحتلال الفراغ الذي خلفه تحرك ميسي لخلق وضعية تفوق عددي على الطرف
يقرأ موتا ما يحدث سريعا فيتراجع لميسي ويترك تشافي لسنايدر بينما يتراجع زانيتي مع صامويل للرقابة الوقائية ضد ابراهيموفيتش، كامبياسو يقترب تدريجيا من ميسي حتى يستطيع موتا التقدم ليايا توريه وافساد فكرة جوارديولا.
نفس الفكرة تتكرر ولكن مع بعض التغييرات، تشافي يستلم الكرة، ويمرر لألفيس الذي يسحب بدوره كريستيان كييفو بعيدا عن الثلث الدفاعي لفريقه، بينما يقوم ميسي وإبراهيموفيتش بتنفيذ نفس الفكرة السابقة، ولكن بشكل أسرع.
سرعة تنفيذ الفكرة جعل تراجع موتا لرقابة ميسي وبالتالي تراجع زانيتي لدعم صامويل متأخرا بعض الشيء، ولكن استلام إبراهيموفيتش للكرة بالقرب من الخط سهل على صامويل محاصرته.
الفكرة الثانية: التحميل الزائد على احدى جهتي الملعب
عادة ما تهدف فكرة التحميل الزائد على احدى جهتي الملعب إلى استدراج أكبر عدد من لاعبي الخصم باتجاه الكرة بتحقيق الزيادة العددية هناك، ثم تغيير جهة اللعب نحو الجناح المعزول – أو اللاعب القائم بتوسيع الملعب في الجهة المقابلة – وبالتالي خلق موقف 1/1 مع أفضلية الوقت والمساحة للأخير ضد اقرب لاعب منافس له.
ولكن نظرا لتقارب خطوط انتر رأسيا وركونهم إلى الدفاع المنخفض في أغلب فترات المباراة، فكان من الصعب تحقيق مبدأ عزل الجناح المقابل لجهة اللعب. وبالتالي أصبح من الأسهل توجيه الكرة لأقرب مساحة خالية سواء في العمق أو أنصاف المساحات جهة الكرة.
قام ميليتو في بعض الأحيان بالتقدم خلف بيدرو لاستدراج إيتو وإبعاده عن حماية أنصاف المساحات حيث يتواجد تشافي وكيتا تحت رقابة موتا وكامبياسو على الترتيب.
وهنا عندما بدأ تنفيذ محاولة الهجوم كان قام ميسي قد تبادل موقع تمركزه مع إبراهيموفيتش ليتحرك الأول بحرية أمام الصندوق وليتكفل الثاني بتثبيت زانيتي وتعطيله عن متابعة ميسي.
ولكن هنا يستفيد لوسيو من عدم تواجد ابراهيموفيتش في العمق فتعطيه هذه الوضعية الفرصة لاتباع ميسي والقيام بالتدخل استباقيا ضده بينما يسمح تمركز الثلاثي إيتو وموتا وسنايدر بحصار ميسي وقطع مسارات التمرير لزملاءه.
الفكرة الثالثة: مواقف 2 ضد 1 على الأطراف بعد طرد موتا
كان تصرف مورينيو ذكيا وسريعا في نفس الوقت، فبعد تعرض موتا للطرد بلحظات، تحول دييجو ميليتو للاعب وسط أيمن ليتكفل برقابة شقيقه الأصغر جابي، واتجه إيتو ليشغل مركز لاعب الوسط الأيسر بينما دخل كييفو للعمق كلاعب محور ثان إلى جانب كامبياسو، أما سنايدر فقد قام وحيدا بدور الخط الأول للضغط ، وذلك بملاحقة حامل الكرة أيا كان أحد قلوب دفاع برشلونة مرورا ببوسكيتس ووصولا لتشافي عند نزوله قرب دائرة المنتصف
هنا قام بوسكيتس بالنزول وسحب سنايدر بينما قام جابي ميليتو بتوسيع الملعب في الثلث الأوسط لسحب شقيقه في تطبيق آخر لفكرة التحميل الزائد على جهة برشلونة اليسرى.
فبتواجد كامبياسو في أنصاف المساحات لرقابة تشافي وقايم ابراهيموفيتش بتثبيت قلبي الدفاع، استطاع جوارديولا النجاح أخيرا في تحقيق موقف أفضلية: بيدرو وكيتا في مواجهة مايكون.
رغم ذلك يستطيع سنايدر التراجع في الوقت المناسب واللحاق بتشافي لمساندة زميله كامبياسو وبالتالي يضطر برشلونة لتدوير الكرة بحثا عن نفس الموقف، وهو ما يحدث خلال ثوان قليلة مع استلام بيكيه للكرة والتقدم بها بينما يحاول ابراهيموفيتش التحرك بين قلبي دفاع انتر لتعطيل لوسيو عن التدخل ضد كيتا أو على الأقل الاقتراب من مرمى جوليو سيزار.
لم يكن الحديث في مقدمة المقال عن الأثر الإيجابي للأداء الفردي العالي للاعبي إنتر نوعا من المبالغة، فهنا مايكون يتمركز بوضعية جسد مثالية لحالة دفاع 1/1 ضد بيدرو، فهو على أتم الإستعداد للتدخل المباشر أو تعطيل منافسه إذا حاول التوجه للعمق أو لمراوغته للتوغل داخل الصندوق أو حتى لمواصلة التوجه لخط المرمى لإرسال العرضية وفي نفس الوقت يغلق مسار التمرير لكيتا، الذي توجه له لوسيو مسرعا للقضاء على أي تهديد محتمل.
حالة أخرى شبيهة ينجح فيها ميسي في التوغل للعمق واستهداف وضعية 2/1 ضد مايكون بالتمرير لبيدرو، الذي بدوره مرر من اللمسة الأولى لكيتا ولكن تدخل لوسيو في التوقيت المناسب ضمن استمرار تفوق إنتر.
الفكرة الرابعة: كل شيء أو لا شيء
مع مرور الوقت بدون استطاعة برشلونة التسجيل وخصوصا في الشوط الثاني، قام جوارديولا بالدفع بماكسويل كظهيربسمات هجومية أكثر بدلا من جابي ميليتو ليقوم بتوسيع الملعب على كلتا الجهتين رفقة داني ألفيس في الجهة المقابلة لضمان زيادة معدل تواجد الأجنحة في أنصاف المساحات ثم التقدم لداخل مربع عمليات المنافس.
كما قام بإقحام كل من بويان كريكيتش وجيفرين في مركز المهاجم والجناح الأيسر بدلا من ابراهيموفيتش وبوسكيتس ليتحول بيدرو إلى مركز الجناح الأيمن بينما يلعب ميسي دور المهاجم الثاني في تغيير للرسم التكتيكي – على الورق – إلى 4-4-1-1
أما مورينيو فاستبدل سنايدر المنهك بدنيا بمونتاري الذي قام بنفس مهام الأول تقريبا بدون الكرة مع التحول للرسم 6-2-1 بدخول الأظهرة زانيتي ومايكون لأنصاف المساحات للحد من خطورة أجنحة برشلونة وقيام أجنحة إنتر ميليتو وإيتو بأدوار الأظهرة للتكفل بالحد من خطورة توسيع جوارديولا للملعب بواسطة أظهرته
وبالتالي فحتى مع لجوء جوارديولا لإبقاء أحد قلبي الدفاع فقط للحماية من أي تحولات محتملة – وإن ندرت – مع تقدم الآخر كمحور إضافي بجوار تشافي، فأصبح مورينيو يدافع بوضعية 9 ضد 9 بشكل عام و 8 ضد 7 لصالحه بداخل وعلى حدود الصندوق.
من المؤكد أن استمرار استحواذ برشلونة استمر بل وازدادت نسبته بمرور الوقت ولكن التهديد الحقيقي وإن وجد على فترات إلا أنه لم يرقى لطموح جوارديولا لمحو أثر هزيمة الجوزيبي مياتزا رغم إحراز بيكيه لهدف المباراة الوحيد في الدقائق العشر الأخيرة من المواجهة.
المباراة وإن بدت مختلفة بشكل كلي عن النمط المعهود لمثيلاتها ضمن المستوى التنافسي العالي، إلا أنها كانت جديرة بالتحليل للوقوف على بعض الأفكار الهامة والأساليب المستخدمة لفكفكة حالات التكتل المنخفض وما يقابلها من أساليب مناسبة للحد من خطورة تلك الأفكار، والأهم أنها ضمنت للمدرب البرتغالي الوصول لنهائي البطولة تمهيدا لرفع الكأس ذات الأذنين لتكون مسك الختام للثلاثية التاريخية للنيراتزوري.
إنتهى .
اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على معلومات التحديث والأخبار والرؤى.