"تمكّنت كرة القدم من توحيد البلاد، شيء لم تتمكن السياسة من تحقيقه". هذه كانت كلمات أوتو ريهاغل بعد تحقيق اليونان للمعجزة و التتويج بالبطولة الأولي في تاريخها.
وحتى تدرك كيف كان هذا الإنجاز أسطوريًا، سنقدم في هذا المقال نظرة على رحلة اليونان حتى تحقيق هذا الإنجاز.
لم تكن لدى اليونان مسيرة مبهرة في كرة القدم، حيث لم تتأهل إلى بطولات دولية كبرى حتى عام 1980 م, حيث تأهلت ليورو 1980 في إيطاليا و لكن لم تحقق نتائج إيجابية فتذيلت المجموعة مع ألمانيا الغربية و تشيكوسلوفاكيا و هولندا فقد حققت نقطة واحدة بعد تعادل وحيد و هزيمتين و سجلت هدفا واحدا.
ثم انتظرت اليونان لمدة 14 عامًا حتى عادت إلى المحافل الدولية من خلال التأهل لكأس العالم في الولايات المتحدة، ولكن تلك المشاركة كانت مجددًا مخيبة, فتذيلت مرة أخري لمجوعة تضم نيجيريا و بلغاريا و الأرجينتين حيث خسرت كل المباريات و لم تسجل أي هدف.
في تصفيات كأس العالم 2002، وتحت قيادة المدرب اليوناني فاسيلوس دانييل، فشلت اليونان في التأهل في مجموعة ضمت إنجلترا وألمانيا وفنلندا وألبانيا. هذا الفشل أدى إلى إقالة المدرب وتعيين المدرب الألماني أوتو ريهاغل بعد أن حصل على موافقة الإثني عشر عضوًا في الاتحاد اليوناني لكرة القدم.
أوتو ريهاغل تفوق علي مدربيين متمرسيين في كرة القدم مثل :
الأسباني خافيير كليمنتي الذي سبق له و أن درب عدة أندية مثل بيلباو حيث حقق معهم الدوري و الكأس, أتليتكو مدريد, برشلونة و منتخبي أسبانيا الأول و تحت 21 عاما حيث حقق مركز الوصافة معهم في بطولة اليورو 96 تحت 21 عاما أمام إيطاليا.
الإيطالي ماركو تارديلي الذي سبق و أن درب إنتر ميلان و منتخب إيطاليا تحت 21 عاما حيث حقق بطولة اليورو 2000 تحت 21 عاما في سلوفاكيا.
الإيطالي نفيو سكالا الذي سبق و أن درب دورتموند و حقق معهم كأس الإنتركونتينتال.
الإنجليزي تيري فينابليس الذي سبق و أن درب برشلونة حيث حقق الدوري و توتنهام حيث حقق كأس الإتحاد, منتخب إنجلترا و منتخب أستراليا الذي حقق معه مركز الوصافة في بطولة كأس القارات 97 في السعودية أمام منتخب البرازيل.
يعتبر أوتو ريهاغل من أبرز المدربيين في تاريخ ألمانيا حيث درب عدة أندية و حقق معهم نجاحات و أبرزهم:
فورتنا ديسلدورف: حيث نجح في تحقيق الكأس الثاني في تاريخهم موسم 79-80.
فيردر بريمن : حيث نجح في تحقيق بطولتي دوري, بطولتي كأس, ثلاث بطولات سوبر و بطولة كأس الكوؤس الأوروبية.
كايزر سلاوترن: حيث قادهم عندما هبطوا للدرجة الثانية و تمكن من إعادتهم للممتاز بعد فوزه بدوري الدرجة الثانية ثم حقق المعجزة العام الذي يليه و تمكن من تحقيق الدوري الألماني كأول فريق ألماني صاعد يفوز بالدوري مباشرة و رابع فريق في تاريخ الدوريات الخمسة الكبرى.
كما إنه يحمل الرقم القياسي في الدوري الألماني كأكثر عدد إنتصارات (387), أكثر عدد تعادلات (205), أكثر عدد هزائم (228), أكثر عدد أهداف تم تسجيلها من قبل الفرق التي دربها (1473) و أكثر عدد أهداف تم إستقبالها من الفرق التي دربها (1142).
لم تكن بداية اليونان مع ريهاغل مثالية، حيث خسرت أول مباراة رسمية لها أمام فنلندا 5-1. ثم تعادلت مع إنجلترا 2-2 في أولد ترافورد، وكان هدف بيكهام الشهير هو الذي منح التأهل المباشر للإنجليز إلى كأس العالم في اللحظات الأخيرة.
بعد مباراة إنجلترا, بدأ يتضح ملامح لليونان مع ريهاغل فيقول الظهير الأيسر فيساس: "أول شئ علمه لنا ريهاغل أن المنتخب الوطني يأتي أولا و أن كل شئ يأتي بعد المنتخب الوطني".
في تصفيات يورو 2004، عاشت اليونان مرة أخرى فترة صعوبة في البداية حيث خسرت المباراتين الأوليتين أمام إسبانيا وأوكرانيا. عادت المخاوف والشكوك إلى نفوس اليونانيين، وتعرض ريهاغل للإنتقادات حيث ظن البعض أن الإخفاق سيتكرر مجددا و أن المنتخب سيفشل في التأهل مجددا لبطولة كبرى.
ومع ذلك، نجحت اليونان في قلب الطاولة بشكل ملحوظ حيث حققت الانتصار في الست مباريات المتبقية. من بين هذه المباريات، الفوز على إسبانيا في ساراجوسا 1-0، ولم تستقبل أي هدف خلال تلك الفترة. هذا الأداء الرائع منح اليونان بطاقة التأهل المباشرة إلى بطولة يورو للمرة الثانية في تاريخهم، وللمرة الثالثة في بطولة كبرى.
فيقول متوسط الميدان لنادي أيك أثينا إنذاك فاسيليوس تسيارتاس عن التأهل: "لقد كنا جميعا متساويين, لقد كنا جميعا متصلين, كان أمرا فريدا".
أوقعت القرعة اليونان في مجموعة صعبة تضم صاحب الأرض البرتغال، إسبانيا، وروسيا. كانت حظوظ اليونان في البطولة ضعيفة للغاية، حيث كانت بنسبة 150/1 كثاني أقل فريق حظاً في الفوز بالبطولة بعد لاتفيا.
و لم تكن الأمال عالية في البطولة فيقول تسيارتاس : "لقد كان الهدف هو الفوز في مباراة, فقط مباراة فهذا شيئًا لم يتمكن أي من المنتخبات الوطنية من تحقيقه [في البطولات الكبرى]. حتى المنتخب الذي شارك في كأس العالم عام 1994 لم ينجح في الفوز على أي فريق. كان ذلك سيُعتبر نجاحًا: الفوز مرة واحدة".
كما كان فيساس قد حدد مسبقا يوم زفافه في التاسع من يوليو (خمسة أيام بعد المباراة النهائية), و كانت خطيبته قلقة من ألا يتمكن من الحضور و لكنه طمئنها و قال لها: "لا تقلقي, سأكون في المنزل في بدايات يوليو. يمكنني مشاهدة الدور نصف النهائي والنهائي مع أصدقائي، بعض البيرة، وقليلاً من البيتزا. ثم يمكننا أن نقيم احتفالنا الخاص و الجميع سيكون حاضرا".
و لكن اليونان فاجأت العالم بعدما تمكنت من الإنتصار على صاحب الأرض البرتغال في المباراة الإفتتاحية بنتيجة 2-1 حيث لم يستطع الفريق اليوناني النوم بعد المباراة, فكانوا يعيدون الفرجة على المباراة مرارا و تكرارا و يستمعون إلى التعليق اليوناني و جسمهم ملئ بالأدرينالين من تلك المفاجأة.
فيحكي تسيارتاس: "هذا الفوز حررنا, فشعرنا كأننا أحرارا".
في المباراة التالية, نجحت اليونان في العودة من الخسارة و التعادل أمام أسبانيا ليتقاسموا الصدارة بأربع نقاط. و كان يكفيها الفوز في المباراة الأخيرة للتأهل إلى الدور القادم أمام روسيا (المنتخب الذي ودع البطولة) و لكنه خسروا اللقاء و مع ذلك نجحوا في التأهل للدور القادم كوصيف المجموعة بسبب تسجيل عدد أهداف أكثر من منتخب أسبانيا الذي خسر من البرتغال.
في الدور القادم كان على اليونان مواجهة المنتخب الفرنسي المدجج بالنجوم كتورام و زيدان و هنري و ليزارازو. و لكن كل تلك النجوم لم تمنع مواصلة المفاجأة اليونانية من الإستمرار و تمكنت اليونان من العبور إلى الدور القادم بهدف دون رد.
و من بعد تلك المباراة بدأت تتولد أحلام جديدة لدى اليونانيين و هي تحقيق البطولة الأولى في تاريخهم و تحويل المفاجأة إلى معجزة و الفوز باليورو فيقول فيساس: "بعد المباراة, لقد أمنت بمقدرتنا لتحقيق شئ مميز".
و في نصف النهائي كانوا على الموعد مع الحصان الأسود للبطولة و المنتخب صاحب الكرة الأجمل و الذي خطف قلوب المشاهديين و هو المنتخب التشيكي بقيادة نيدفيد و كولر و ميلان باروش. فكان هناك شك في بعض اللعبيين خاصة و على الرغم من تحقيق اليونان للمفاجأة إلى إنهم لم يفوزوا بقلوب المشاهديين كون طريقتهم دفاعية و تم وصف لعبهم بالقبيح.
فيقول فيساس: "لم نمتلك أسلحة مثل التي كان يمتلكها المنتخبات الكبرى كزيدان أو سيماو أو كريستيانو رونالدو, و لكن كنا نمتلك عمل و إجتهاد و تضحية و روح العائلة مثل ما يفعله أتليتكو مدريد تحت قيادة سيميوني".
و يستكمل قائلا: "فالعالم كان يرانا كالمستضعف الوحيد الذي يريد الجميع هزيمته مثلما عنونت الجارديان و أن بلاتيني (رئيس الإتحاد الأوروبي وقتها) كان يرانا Bad for business و كان قلقا ليشجع ذلك الأسلوب فرق أخرى".
و مع ذلك هذا لم يمنع اليونان من مواصلة تحقيق المعجزة و نجحت في الفوز في الوقت الإضافي بالهدف الفضي (القانون الذي تم إلغائه بعد هذه البطولة) ليقصوا الحصان الأسود جمهورية التشيك و يتأهلوا للنهائي الأول في التاريخ. "و هنا عندما أمنت حقا بمقدرتنا بالفوز بالبطولة" يقول تسيارتاس.
و قبل النهائي ببضعة أيام تجمع لاعبي اليونان و نسيوا المشاكل التي كانت تجمعهم مع بعضهم أو مع الإتحاد اليوناني لكرة القدم أو موضع بعضهم من عدم البدء في بعض المباريات. فيقول تسيارتاس: "لقد تحدثنا مع بعضنا البعض بأن هذه هي فرصتنا الوحيدة لكتابة التاريخ و أننا لن نستطيع إعادة ما قد حدث مجددا و تعاهدنا على تقديم كل ما نملكه حتى لا نتضطر إلا إعادة المحاولة مرة أخرى".
و يقول فيساس : "لقد إعترفنا جميعا إن إذا كان قد قيل لنا قبل البطولة أن نلعب في النهائى و نخسر كنا سنوافق على الفور فكان سيكون إنجازا فريدا و لكن بمجرد وصولنا للنهائي فكنا مصريين على أخذ الخطوة الأخيرة و خرجنا من الإجتماع و نعلم أن علينا إنهاء المهمة".
في المباراة النهائية تواجهت اليونان مع صاحب الأرض البرتغال في مباراة تكرار للمباراة الإفتتاحية و سعي البرتغال للثأر و تحقيق اللقب الأول في تاريخهم على أرضهم و وسط جمهورهم ولكن تحققت المعجزة برأسية من خارستياس ليتوج اليونان بالبطولة الأولى في تاريخهم بعد و أن كانوا من قبل فشلوا في تحقيق إنتصار واحد في بطولة كبرى.
فيقول تسيارتاس : "الذكرى تزداد تميزا مع مرور الوقت, فليس كثيرا ما يستطيع أن يفعل لاعبي كرة القدم شئ يدعو للفخر لبلادهم. ولكن أهم شئ هو إننا تمكننا من تحقيق شئ لمواطنينا فسيظل الناس يتذكرون ذلك الإنجاز وسيوقفوني ليقولوا لي شكرا. أنا مازلت فخورا كوني أحد من ساهموا في هذا الإنجاز".
و في النهاية تمكن فيساس من حضور حفل زفافه و معه كأس بطولة اليورو و لم يكن الزفاف الوحيد في المنطقة و لكن جميع الناس من الحفلات الآخرى أتوا ليلتقطوا صور تذكارية مع الكأس و تحول الزفاف الذي كان يحمل 300 ضيف إلى الألاف من الناس يحتفلون مع اللعيبة بالإنجاز التاريخي.
بينما ريهاغل تم منحه لقب الملك ليصبح الملك أوتو و تم إنتاج فيلم وثائقي ليوثق هذا الحدث بنفس العنوان "الملك أوتو" كما تم إصدار كتب تحتفي بالإنجاز.
و على الرغم من عدم تكرار اليونان للإنجاز و لكن السنوات الأولى بعد اليورو كانت جيدة فنجحت اليونان في التأهل إلى يورو 2008 و كأس العالم 2010 و حققت اليونان الفوز الأول في تاريخها في كأس العالم بعد الفوز على نيجيريا 2-1 و لكنها لم تتمكن من تخطي دور المجموعات في البطولتين و رحل بعدها ريهاغل.
و أتي فيرناندو سانتوس (المدرب الذي بعد ذلك جلب اليورو للبرتغال) و نجح في الوصول ليورو 2012 و تخطي دور المجموعات و لكنه خرج على يد ألمانيا بنتيجة 4-2 ثم تأهلوا لكأس العالم 2014 و نجحوا في تخطي دور المجموعات للمرة الأولى في تاريخهم و لكنهم خرجوا في دور ال16 على يد كوستاريكا بالركلات الترجيحية.
ثم رحل سانتوس و أتى مدربون كثر و لكن لم تتمكن اليونان إلى هذه اللحظة من التأهل لبطولة كبرى.
و على الرغم من مرور حوالي عشرون عاما على الإنجاز إلا إنه سيبقى عالق في أذهان اليونانيين و كأنه حدث البارحة.