مساء يوم الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1930 يتجه أليكس باركر برفقة حفيده إلى ملعب الهايبري، ملعب الأرسنال حين ذاك، كان أليكس باركر مشجعًا للأرسنال طيلة حياته، استغلّ أليكس فترة الأعياد لزرع التعلّق بفريق الأرسنال في قلب حفيده توم، الذي كان لا يتجاوز العشر أعوام حين ذاك، لا يعلم الكثير عن قوانين كرة القدم.
لم تكن كرة القدم اللعبة نفسها خلال التاريخ، الأمر الذي أراد أليكس شرحه بشكل مبسط لحفيده توم، أثناء سيرهما سويًا للحاق بالحافلة التي سوف تقلّهما إلى ملعب المباراة مباشرة، بدأ أليكس حديثه عن قانون التسلل:
“ كان ملعب المباراة ساحةً عشوائية، الكل يركض للأمام لأنك لا يمكنك التمرير للأمام لإنك سوف تقع في التسلل حينها، لا توجد طريقة للتقدم سوى بحمل الكرة والركض بها “.
تظاهر توم بالفهم، لكن أليكس رأى في عينيه هذه النظرة البلهاء التي تنم على عدم الفهم التي كان يراها جده دائمًا حين يسأله عن شيء في الرياضيات! سرعان ما أنقذه وصول الحافلة، جلسا سويًا في الصف الأخير، أخرج أليكس ورقة من جيبه وبدأ بالرسم عليها، وأكمل حديثه قائلًا:
” طوال القرن ال19 حتى عام 1863 كانت كرة القدم رياضة مختلفة عن التي نعرفها اليوم، كان لا يمكنك التمرير للأمام بسبب قانون التسلل حينها، كان قانون التسلل ينص على التمرير بعرض الملعب أو للخلف، لو مررت الكرة للأمام لزميل لك، سوف تقع في التسلل، لذلك كان على الفريق التحرك ككتلة واحدة على خط واحد، والركض بعشر لاعبين جنبًا إلى جنب بإتجاه مرمى الخصم! “
كان رد توم حينها على جده: ” لكن ذلك يعني أن كل الفريق سيهاجم! لا يوجد دفاع أو هجوم أو شكل من الأساس!“
” بالضبط، كانت كرة القدم حينها أشبه برياضة الرغبي، لا تمتُّ للعبة التي نعرفها الآن في شيء واستمر الوضع كذلك حتى عام 1863 حينها تم تغيير قانون التسلل، ليكون شبيه لما هو القانون عليه اليوم، لكنه كان مختلفًا أيضًا، كان لا بد أن يكون هناك ثلاث لاعبين من الخصم (حارس المرمى هو من هؤلاء الثلاث) بين الكرة وبين زميلك الذي سوف تمرر له الكرة.”
رد توم: ” ذلك جعل كرة القدم حينها أقرب إلى كرة القدم التي نعرفها الآن، أليس كذلك؟“
أكمل أليكس: ” لا ليس بالضرورة لأن طبيعة البشر تميل إلي التحايل على القوانين“.
توم: ” ماذا تعني بذلك؟“
أليكس: كان التسلل في ذلك الوقت من الممكن أن يحدث في نصف ملعبك و أنت تقوم ببناء اللعب، كان من الممكن أن تقع في التسلل في الثلث الأول من الملعب! كان ذلك جليًا في أول نهائي شهده تاريخ كرة القدم، نهائي البطولة الأقدم في التاريخ، كأس الإتحاد الإنجليزي بين فريق Wanderers و فريق Royal Engineers فريقين لا نعرفهم الآن، أليس كذلك؟“.
توم: ” ماذا حدث في هذه المباراة؟ “
يقوم أليكس بكتابة تشكيلة الفريقين في ورقة أخرى ثم يكمل حديثه: ” تستطيع أن ترى هنا أن كل فريق يلعب بمدافع واحد ولاعب أو لاعبين خط وسط وباقي اللاعبين في خط الهجوم، وذلك للإستفادة من الخلل الموجود في القانون حينها، سوف أضغط عليك بكل لاعبي فريقي في منطقة جزائك وحينها لن تستطيع لعب الكرة للأمام لأنك سوف تقع في التسلل“.
توم: “بذلك أصبح قانون التسلل عام 1863 لا قيمة له ورجعنا إلى النقطة صفر!!“.
أليكس: نعم بالفعل وكادت كرة القدم أن تكون لعبة مملة لقلة الإثارة وزيادة العشوائية، ولذلك ففي عام 1907 أصبح تطبيق التسلل فقط في نصف ملعب الخصم، أي أن لا يمكن أن تقع في التسلل في نصف ملعبك، إلى أن وصلنا إلى آخر تعديل عام 1925 الذي ينص على وجود لاعبين اثنين من الخصم ( من بينهم حارس المرمى) بين الكرة وبين اللاعب الذي ستُمرر له الكرة، وحينها وصلنا للشكل التي تلعب به كرة القدم الأن، وفي طريقنا للعودة من الملعب للمنزل سوف أحكي لك عن هرم كامبريدج“.
وأثناء إكمال أليكس حديثه لحفيده توم، كانت قد وصلت الحافلة إلى ملعب الهايبري، ليشاهدوا فريقهم أمام شيفيلد وينيزداي، وأستطاع أن يحقق فريق الارسنال الفوز في ذلك اليوم.
بعد تعديل قانون التسلل عام 1907 بدأت كرة القدم أخذ منحنى آخر وجديد، حيث أن زاد الإهتمام باللعبة بشكل كبير، ودخلت ثقافات مختلفة لمحاولة التكيّف مع هذه التغيرات، أهم هذه المحاولات على الإطلاق والتي كانت بمثابة حجر الأساس لكثير من التشكيلات في المستقبل، كانت من فريق الهواة لدى جامعة كامبريدج، ألا وهو تشكيل “هرم كامبريدج” كانت تعتمد على حارس مرمى، ومدافعين أثنين، ثلاث لاعبين وسط ملعب، وخمس مهاجمين.
مع دخول قانون التسلل الجديد عام 1925، جعل اللعب بمدافعين اثنين فقط هو شيء أقرب للإنتحار، فتشكّلت كرة القدم حينها، وحاولت كل دولة وكل ثقافة تطوير الطريقة التي يلعبوا بها، وبدأ التاريخ منذ تلك اللحظة.
صباح يوم الواحد والعشرين من مايو عام 1930 أصطحب أليكس باركر حفيده توم مرة أخرى إلى آخر مباراة في الموسم على ملعب الهايبري، للاستعداد للاحتفال بأول بطولة دوري للارسنال في تاريخه، كان قد حُسم الدوري بالفعل قبل هذه المباراة للأرسنال، ولذلك تطرّق أليكس للحديث مع حفيده عن أمور تكتيكية بدلًا من توترهم من نتيجة المباراة.
يقول ألكيس لتوم: ” بفضل مدربنا العظيم هيربيرت تشابمان، سنحقق أول بطولة دوري لنا في تاريخنا، يلعب بطريقة غريبة عمّا تعودت أن أراه من الفرق الأخرى، مع تعديلات في خطة هرم كامبريدج التي حدثتك عنها من قبل، بدلا من اللعب ب مدافعين اثنين كما في خطة كامبريدج، ينزل أحد لاعب الوسط ليكون المدافع الأوسط، وتكون له أدوار دفاعية كبيرة ضد مهاجمي الخصم و يُسمي Stopper“.
يكمل أليكس حديثه: ” وينزل اثنين من المهاجمين ليصبحوا لاعبي وسط لصناعة اللعب بدلا من كونهم مهاجمين، وكان اللاعب أليكس جيمس هو اللاعب الأهم في هذه التشكيلة، يراه البعض أنه أول صانع لعب في التاريخ بمفهومه الحاضر.
وبذلك هناك أربع لاعبين وسط، اثنين مهامهم دفاعية، واثنين مهامهم هجومية، وبذلك تكتمل خطة WM التي هي السبب الحقيقي وراء فوزنا بالدوري هذا الموسم“.
(1)
بعد مئة عام تقريبًا، أصبح توم باركر الحفيد جِدًا، هو الآن من أكبر مشجعي الأرسنال عمرًا حول العالم، تطوّر العالم، وتطوّرت كرة القدم كذلك، الأمر المثير للدهشة هو رؤية توم لفرق الدوري الإنجليزي مثل برايتون أند هوف ألبيون، ومانشستر سيتي، وليفربول، حتى فريقه الأرسنال يلعب بشكل الWM الأمر الذي جعله يفكر كثيرًا، هل من المعقول بعد قرن من الزمان لم تطوّر كرة القدم؟
تم تشخيص توم بالدرجة الرابعة من سرطان البروستاتا، الأمر الذي جعله يكرس آخر شهور حياته لمعرفة إجابة هذا السؤال، فهو مُتيّم بكرة القدم، استعان توم بحفيده جيمس لمساعدته، فهو شاب في العشرينات من عمره، مُحب لكرة القدم وللأمور التكتيكية والتحليلية في اللعبة.
يوم السادس والعشرين من فبراير عام 2023 ذهب جيمس لمنزل جِده لمواساته، حيث أن كان قد خسر الأرسنال مباراته أمام مانشستر سيتي في الدوري بنتيجة 1-3، الأمر الذي أنهى بشكل كبير آمالهم في الفوز بالبطولة الأولى لهم منذ ما يقارب العشرين عامًا.
بدأ جيمس حديثه: ” أتريدني أن أحدثك قليلًا عن الأمر الذي أردت مساعدتي فيه؟“
رد توم: ” نعم أريد، فأنا لا أفهم، كيف ما زالوا يلعبون بنفس الشكل منذ مئة عام؟ ما فائدة المحللين والمدربين إذا لا يمكن تطوير أي شيء؟!“.
رد جيمس: ” ربما الشكل الخططي الWM مازال كما هو، لكن في كرة القدم الحديثة لا يهم ما هو مركزك، المهم هو أدوارك وفلسفة لعب الفريق“.
كان جيمس محقًا، الأهم هو ما تريده من لاعبيك، كان هيربيرت تشابمان في ثلاثينيات القرن الماضي يُفضل أن يقوم بتأمين دفاعه بقوة بثلاث مدافعين، ولاعبين اثنين وسط ذوي أدوار دفاعية، واستخدام الهجمات المرتدة كسلاح مهم، فضّل تشابمان رد الفعل على الفعل نفسه، هذه كانت فلسفته، لأن ذلك كان يتوافق مع ما يؤمن به ومع قدرات لاعبيه أيضًا.
استخدم دي زيربي مدرب برايتون نفس الشكل التكتيكي في عام 2023 تقريبًا الWM بوجود أربع لاعبين وسط ملعب ليكونوا Box Midfield، الأمر نفسه الذي استخدمه تشابمان.
لا يتشابه نظام دي زيربي ونظام تشابمان سوى في الشكل الخططي 3-2-2-3 فقط، لكن يختلفوا في كل شيء تقريبا، حتى في فلسفة اللعب، يؤمن دي زيربي في كونه صاحب الفعل وليس رد الفعل، لا يهتم بالهجمات المرتدة مثل تشابمان، بل يهتم بإجبار الخصم على الضغط عليه عاليًا، ثم يخترق ضغط الخصم من خلال هذا الضغط، من وسطه، وليس من حوله، أو بلعب الكرات الطويلة، يهتم دي زيربي بسحق الخصم نفسيًا في هذه المرحلة.
أسلوب لعب دي زيربي هو أسلوب استباقي Proactive مقارنة بأسلوب لعب تشابمان Reactive أي رد الفعل، حتى أدوار اللاعبين مختلفة، يعتمد دي زيربي على لاعبي وسط استثنائيين في اللمسة الأولى، مُدربين بعناية على الهدوء في الخروج من الضغط بأقل عدد من اللمسات، ومدافعين لديهم القدرة على لعب تمريرات بإرتفاع وقوة مناسبة لكل موقف.
(2)
استخدم مانشستر سيتي نفس الشكل الخططي تقريبا 3-2-2-3 في بعض الأحيان يتحول إلى 3-3-1-3 الأمر الذي يتشابه فيه كثيرًا مع تشابمان في ثلاثينيات القرن الماضي.
يعتمد بيب على أسلوب لعب استباقي مثلما يفعل دي زيربي، ولكنه يفضل أن يكون إيقاع المباراة أبطأ بشكل كبير عن دي زيربي، يهمه كثيرا مداورة اللعب في الثلث الأوسط والأخير من الملعب، بدلًا من اللعب من لمسة واحدة مثلما يفعل دي زيربي الذي يفضل ايصال الكرة بأسرع شكل ممكن للثلث الأخير.
يؤمن بيب جوارديولا بأن كلما أرسلت الكرة للأمام سريعًا، ستعود الكرة إليك بنفس السرعة، لذلك يعتمد بيب على نوبات استحواذ طويلة ذات إيقاع بطيء نسبيًا وانتظار اللحظة المناسبة لأخذ أفضل قرار ممكن في ذلك الموقف.
(3)
مع انهيار موسم ليفربول الماضي، تبنّى كلوب خطة الWM أيضًا، بدخول ترينت أليكساندر أرنولد لعمق الملعب ( مقال إعادة بناء ليفربول من هنا ) من الممكن القول أن منهجية لعب كلوب مشابهة إلى حد ما مع تشابمان، فكلاهما يفضلان اللعب المباشر بشكل كبير مع تفضيل الهجمات المرتدة كسلاح فتّاك.
لا يعطي ليفربول أولوية قصوى للحفاظ على الكرة أو للإستحواذ مثلما يفعل جوارديولا و دي زيربي، يعتقد كلوب أنه لا بأس بخسارة الكرة في نصف ملعب الخصم بشرط أن يتحلى فريقه بحدة عالية في الضغط العكسي لاستعادة الكرة بأسرع شكل ممكن، حيث أن كلوب يرى أن أفضل صانع لعب في العالم هو الضغط العكسي.
شكل ليفربول الجديد و Box Midfield
امتلاك ليفربول للاعب رقم 9 قادر على النزول للمساعدة في الخروج بالكرة هو أمر لا غنى عنه في فرق كلوب.
توم : ” فهمتك، لا يهم الشكل الخططي كثيرا في كرة القدم الحديثة، ربما هناك فريقان يلعبان بنفس المراكز على الورق، لكن أدوار اللاعبين مختلفة كليًا ذلك يجعلهم يلعبون كرة قدم مختلفة جذريًا؟“
جيمس: ” بالضبط، هذا ما أعنيه، لا توجد علاقة بين تشابمان وهؤلاء المدربين العظام، لكل مدرب فلسفته الخاصة ويؤثر ذلك على الأدوار التي يطلبها من لاعبيه، هناك 3 أو 4 فرق في الدوري يلعبون الآن بنفس الخطة على الورق الWM لكن لكل منهم رؤيته الخاصة للعبة، حتى لو لعب كل فرق الدوري بنفس الخطة، لن تجد هناك فرقتين متشابهتين في الأدوار والفلسفة، إنه أمر مدهش حقًا!“.
إنتهى .
اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على معلومات التحديث والأخبار والرؤى.