ةفي موسم 2024–2025، خطف نادي باريس إف سي (Paris FC) الأنظار في الكرة الفرنسية بعدما حقق إنجازًا تاريخيًا بعودته إلى دوري الدرجة الأولى "ليغ 1"، للمرة الأولى منذ أكثر من أربعة عقود. لم يكن هذا الصعود مجرد مصادفة أو ثمرة لحظ، بل كان نتيجة مشروع رياضي متكامل بدأ منذ سنوات، وتبلور خلال الموسم الأخير تحت قيادة المدرب الفرنسي ستيفان جيلي.
Paris FC logo
تأسس نادي باريس إف سي في عام 1969 بعد انفصال عن نادي باريس سان جيرمان. ومنذ ذلك الحين، ظل الفريق يتأرجح بين الدرجات الثانية والثالثة، دون أن ينجح في ترسيخ مكانته ضمن نخبة الكرة الفرنسية. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تطورًا ملحوظًا في البنية التحتية للنادي، واستثمارات جديدة ساهمت في تحسين جودة اللاعبين والمدربين داخل المنظومة.
وشهد عام 2024 تحولًا جذريًا في هيكل ملكية النادي، حيث استحوذت عائلة أرنو الفرنسية، إحدى أغنى العائلات في أوروبا ومالكة مجموعة LVMH، على الحصة الأكبر في النادي عبر شركتها Agache Sport بنسبة 52.4٪. كما دخلت شركة "ريد بول" النمساوية شريكًا استراتيجيًا بعد استحواذها على 10.6٪ من الأسهم، في حين احتفظ بيير فيرراشي، الرئيس السابق للنادي، بنسبة 29.8٪ من خلال شركته Alter Paris. وتمتلك شركة BRI Sports Holdings النسبة المتبقية البالغة 7.2٪.
LVMH
Agache family holding company Antoine Arnault
هذا التغيير الجذري في إدارة النادي جلب معه رؤية حديثة تهدف إلى تحويل باريس إف سي إلى أحد القوى الصاعدة في الكرة الفرنسية، من خلال تعزيز الاستقرار المالي، الاستثمار في أكاديميات الشباب، وتبني أساليب متطورة في الإدارة الرياضية. ومع دخول ريد بول، أصبح من الواضح أن النادي يسير على خُطى مشاريع ناجحة مشابهة مثل لايبزيغ وسالزبورغ.
وقد أثمر هذا التحول عن قرارات استراتيجية، من بينها التعاقد مع يورغن كلوب، المدير الفني السابق لليفربول، في منصب المدير العالمي لكرة القدم ضمن مجموعة ريد بول، حيث سيلعب دورًا إشرافيًا على المشاريع الكروية التابعة للشركة، ومنها باريس إف سي. وقد أعرب كلوب عن نيته تطوير بنية النادي ومرافقه، وأبدى دهشته من تصميم ملعب "شارليتي" الحالي، مما دفع الإدارة إلى الإعلان عن الانتقال إلى ملعب "جان بوان" بدءًا من موسم 2025-2026. وبين ملعب "جان بوان" وملعب باريس سان جيرمان "بارك دي برينس" بعض الأمتار مما سيجعل الديربي مشتعل في الموسم المقبل.
Global head of Football at Red Bull, Jurgen Klopp and representative
of the Agache family holding company Antoine Arnault
Stade Charlety
Jean Bouin next to Parc des princes
في الجانب التجاري، ارتبط باريس إف سي بعدة رعاة مؤخرًا، أبرزهم شركة "Hyundai" لصناعة السيارات، وشركة الاتصالات الفرنسية "Orange"، بالإضافة إلى دعم من شركاء استثماريين جدد من داخل أوروبا، مما عزز من مكانة النادي في السوق الرياضية ورفع من قيمة علامته التجارية.
Hyundai
الموسم الماضي كان شاهدًا على تطور مذهل في أداء الفريق، حيث أنهى باريس إف سي دوري الدرجة الثانية في المركز الثاني برصيد 66 نقطة، خلف أوكسير المتصدر، ليضمن بذلك الصعود المباشر إلى دوري الأضواء. الفريق حقق 20 انتصارًا، وتعادل في 6 مباراة، وخسر في 7 فقط، مسجلًا 53 هدفًا، واستقبل 33، مما يعكس توازنًا واضحًا بين الدفاع والهجوم.
ما ميّز باريس إف سي خلال هذا الموسم الناجح لم يكن فقط نتائجه، بل أيضًا طريقة لعبه المرنة والجريئة. فقد أظهر الفريق شخصية تكتيكية قوية، واعتمد على أساليب لعب متنوعة حسب طبيعة الخصم وظروف المباراة. التشكيلة الأكثر استخدامًا كانت 4-3-1-2، حيث لعب الفريق بثلاثة لاعبي وسط يغطون مساحة كبيرة من الملعب، وخلفهم رباعي دفاعي ثابت، مع لاعب وسط هجومي حر خلف مهاجمين متقدمين. هذه التشكيلة منحت الفريق القدرة على السيطرة على منطقة الوسط، واستغلال المساحات خلف دفاعات الخصم بفضل التحركات الذكية للمهاجمين.
إلى جانب ذلك، استخدم المدرب ستيفان جيلي تشكيلات أخرى مثل 4-2-3-1، و4-4-2 في بعض المباريات. ففي اللقاءات التي تطلبت توازنًا دفاعيًا أكبر، لجأ إلى 4-2-3-1، مع ثنائي ارتكاز يضمنان التغطية أمام خط الدفاع، وثلاثي هجومي متحرك خلف رأس الحربة. أما في المباريات الصعبة أو أمام خصوم أقوياء هجوميًا، فقد اختار خطة 4-4-2 الكلاسيكية، مع تركيز على الكثافة العددية في الوسط، والاعتماد على الهجمات المرتدة.
من أبرز خصائص الفريق أيضًا قدرته على بناء اللعب من الخلف، دون الاعتماد على الكرات الطويلة. كان المدافعون والحارس يشاركون في التدرج بالكرة، ما يساهم في سحب خصمهم إلى الأمام وفتح المساحات في الخلف. وعند فقدان الكرة، يطبق الفريق ضغطًا عاليًا في مناطق متقدمة، مما يجبر الخصوم على ارتكاب أخطاء أو لعب كرات طويلة غير دقيقة.
وقد تألق خلال هذا الموسم عدد من اللاعبين الذين كان لهم دور محوري في تحقيق هذا الإنجاز. جان فيليب كراسو، القادم من سانت إيتيان، كان المهاجم الأبرز بتسجيله 15 هدفا حاسما، كما لعب دورًا كبيرًا في خلق المساحات لزملائه بفضل قوته البدنية وتحركاته الذكية. كما لمع نجم إيلان كيبال، الذي شغل دور صانع الألعاب والجناح، وساهم في صناعة الأهداف بفضل تمريراته الدقيقة ورؤيته الثاقبة.
Jean-Philippe Krasso
Ilan Kebbal
أما في وسط الملعب، فقد تميز أداما كامارا بثبات أدائه، وقدرته على افتكاك الكرات وبناء الهجمات، وهو اللاعب الذي شارك في معظم مباريات الموسم وكان عنصر توازن مهم في منظومة اللعب مع اللاعب ماكسيم لوبيز النجم السابق لمارسيليا وساسولو.
Adama Camara
Maxime Lopez
المدرب ستيفان جيلي، الذي تسلم تدريب الفريق في منتصف الموسم السابق، أثبت جدارته بقيادة المشروع إلى بر الأمان. جيلي لم يكن فقط مدربًا يُجيد قراءة المباريات، بل نجح أيضًا في خلق روح جماعية بين اللاعبين، وتعزيز ثقافة الانتصار داخل غرفة الملابس. كما أظهر مرونة تكتيكية عالية، إذ لم يلتزم بخطة واحدة بل كان يُغيّر الرسم التكتيكي بمرونة حسب سير المباريات، ما جعل الفريق أكثر تنوعًا وصعوبة في التوقع.
Stephane Gilli
صعود باريس إف سي إلى دوري الدرجة الأولى لا يمثل نهاية الطريق، بل بداية مرحلة جديدة تتطلب مزيدًا من العمل والتطوير. فالفريق الآن سيواجه أندية ذات ميزانيات أكبر، وخبرات أوسع، ولاعبين من طراز عالمي. لذلك، سيكون لزامًا على الإدارة تعزيز الصفوف بصفقات نوعية، خاصة في الدفاع والهجوم، مع الحفاظ على الهيكل الأساسي للفريق.
الجماهير من جهتها، تعيش حلمًا طال انتظاره. فبعد سنوات من التنقل بين الدرجات الدنيا، ها هو نادي العاصمة الصغير يعود ليُنافس الكبار في ملعب الحداثة والنجومية. وسيكون الموسم المقبل فرصة حقيقية لترسيخ مكانته، ليس فقط كوافد جديد، بل كفريق طموح قادر على مفاجأة الجميع.
بهذا الصعود، لا يعود باريس إف سي مجرد ظلّ لغريمه الكبير باريس سان جيرمان، بل يصبح رقمًا جديدًا في معادلة الكرة الفرنسية، ومصدر فخر لعشاقه الذين انتظروا هذا اليوم طويلاً.